نظرت اليه و قد بدا بائساً في ثيابه الرثة،
عينيه تجول بلا اهتمام ولا حقد على رغم فقره، بادياً على وجهه علامات اللامبالاة
كما لو كان سائرا نائما، لا يعلم من أين جاء أو أين يذهب، تائه على غير هدى. نظرت اليه
بتمعن أكثر، و أنا أتنفس دخان سيجارتي بحركات لا شعورية. لم يكن الوقت متأخرا
كثيرا، الثامنة والنصف والجو لا يبدو محذرا أو منذرا، بل بالأحرى مطمئنا كمن يمد
يديه للسلام بعد عراك،
حال حكامنا الأعزاء يشبه كثير حال طقس أمشير،
كلاهما عنيف، لا يرحم مشاة، لا نساء ولا أطفال، و عندما يظهر بعض بوادر الهدنة و
يتبسم في وجهك، لا تمضي ساعات إلا و تنكشف عنه ستائر الزيف، لترى صفين من الأسنان
الصفراء القبيحة مظهرة طبيعة غير قابلة للتغيير.
تهت في دوامة من الأفكار أنتهكت سلام رأسي انتهاكا،
و لكن لم يدم الأمر سوى بضعة ثوان قضيتها متأملاً و نظري مثبتاً عليه. و اذ فجأةً
يقع كل ما يحمله الزبال من صناديق كرتونية فارغة و زجاجات بلاستيك ... فينظر إليها
في استياء، لم أره يهرع الى التقاطها بل تمهل في صبر و أثنى ركبتيه و مال يجمع
ثرواته المطروحة أرضاً.
نظرت إلى صديقي الجالس إلى جانبي ممسكا
بالمقود، كدت أن افضي إليه بما جال في صدري من خواطر غريبة، و لكن أنعقد لساني و
شعرت أن هذه الأفكار المتضاربة لن تعبر حاجز جبهتي و تنزلق عن لساني لفقدان السبيل.
و تخيلت هل تطوف برأس عسكرنا الكرام، الذين
يرددوا علو قدر كرامتنا الإنسانية، و رؤوسنا المرفوعة، مثل هذه الأفكار، أو هل
تجول أبصارهم بهذه الشوارع أم انهم قد أعتادوا شوارع مختلفة لا تتواجد فيها أصناف
معينة من البشر ... لربما عقولهم عامرة بما يكفيهم فلا يجدون في الموقت متسع، أو
في العقل مساحة، أو في الجيب ما يصلح الحال.
ماذا يشغل رؤوسهم الكبيرة، المخضرمة، المليئة
بالخبرة – العسكرية طبعا – ربما يفكرون في حال شعبهم بعدما طعن الاقتصاد بنصل
الوهم، أو ربما يفكرون في حال إعلام يمارس سياسة أولها تاء و أخرها صاد ـ و هي
سياسة تتناسب مع كل زمان و مكان عدا زمان الضمير. أو لعلهم يفكرون في هؤلاء الشباب
اليافع الذي أخترقت جسمه بضعة رصاصات، و أمهاتهم المفجوعة .. ربما يفكرون في أنس
ذو الستة عشر ربيعا، الذي قتل في ربيعه ...
ربما يفكرون في من أضطروا الى ترك منازلهم
قسرا، و السيوف على أعناقهم، أو من قتلوا مصلين، و ذبحوا خاشعين ... ربما يفكرون
في القلوب المتوجعة والعقول المضطربة والأعين الباكية. ربما يفكرون في طفل لن يقص
على أبيه ما حدث في مدرسته، و لن يحتفل معه بعيد ميلاده العاشر، ولن يتشاجر معه
بسبب قضاءه الوقت في اللعب، و لن يداعبه عندما يراه سارحا في حبه الأول، لن يهنئه
بنجاحه ولن يجادله في اختياره لجامعته، لن تجاوره خطاه و هو في طريقه لخطب من أحبها،
و لن يبتسم له في زفافه و لن يحمل طفله الأول.
هل يفكرون في هذا الزبال العجوز وزجاجاته ؟
ثروته الرخيصة و لقمته الصغيرة القابلة للزوال. ربما يفكرون في انحناءه أرضا
ليلتقط هذه الأشياء الفارغة التي يلقونها بعدم اهتمام. و تزال كرامتنا الأنسانية
عالية علو الرصيف.
لا
أعتقد أنهم يفكروا سوى في حياتهم الفانية، و ثرواتهم الذهبية وتيجانهم المرصعة
بالماس المستخرج من بطون المذلة، و الأموال المغسولة بدماء من هم أحق بالحياة.
أعتقد أنهم يقضون ليلهم و نهارهم مفكرين في طرق للحفاظ على نسلهم المغضوب عليه، في
محاولة بائسة لتجنب المحتوم، الله لا يقبل رشوة ولا يشفع عنده مال ولا جاه ... و
لكن ستشفع عنده تلك الزجاجات، و هذه الإنحناءه، و نظرات الرضا المليئة بالدموع.
مقالتي الأولى، نشرت في مدونة نُريد بتاريخ السابع من مارس 2012