نظر بتوتر الى الساعة المعلقة على الحائط،
بدا صوتها يصم الآذان .. يعلو فوق أصوات المارة المتضاحكة، و الشباب المازح، و
أبواق السيارات التي تقطع الطريق جيئة و ذهاباً. بدت الدقائق كأنها دهور، يشعر
بهذا التوتر داخله، يختلس النظرات في سرعة الى باب غرفته المُقفَل .. و يستمع الى
أصوات عائلته السعيدة في الخارج، و هم يجلسون مجتمعين يشاهدون التليفزيون كالمعتاد
في هذا الوقت من المساء.
عائلته السعيدة .. ظلت هذه الكلمة تتردد داخل
عقله المُتعب .. تستنزف تفكيره بلا توقف، و لماذا لا تكون عائلته سعيدة أو بالأحرى
مثالية، فقد ولد لأب ناجح، طبيب معروف، مشهود له بالمهارة الفائقة، ينقذ الأرواح
يومياً، الكل يعرف مده وَرعه و عقليته المتفتحة، و فوق كل هذا فهو أب كامل الأوصاف
كما يقول الكتاب، لا يعلو صوته أبداً، هناك دوماً وقت ليستمع لأولاده، و ينصحهم، و
يهتم بأهتمامتهم .. رأس العائلة كما يجب أن يكون، متزوج لسيدة رائعة، ربة منزل،
أهتمامها الأول و الأخير هو زوجها، و أولادها الأثنين، تعمل يومياً منذ ولادتهم
على رعايتهم، و تثقيفهم، و تربيتهم تربية دينية و أخلاقية كما نشأت في بيتها
المحافظ الصغير في أحياء القاهرة، أرادت أن تنسخ حياتها كأبنة الى حياتها كأم.
له أخت، هي صديقته الوحيدة في الدنيا، لطيفة
و عذبة طوال الوقت، تعامل الجميع في حنو ورثته عن والدها، تنصح و تستمع في صبر، لا
تغضب بالمرة، تمتلك هذا السلام الداخلي الذي يشع على من حولها، تعرف كيف تُهدِء
أخيها في ثوراته النفسية المعتادة.
جالت هذه الخواطر في فكرة مئات المرات، و
تتحول الى أصوات تتعالى في رأسه، تتهامس في أذنيه، تراوغه و تناقشه في خُبث، توحي
له، يشعر بها، ليست مجرد أصوات في رأسه، أنه واقع مرير لا هروب منه، يكاد يستشعر
ذبذبات الصوت الصارخ في رأسه.
أراد أن يعبر ذلك الباب في سرعة، و أن يصرخ
في عائلته و يخبرهم أنه الأسرة المثالية ليست مثالية، و انه ليس الشاب الكامل، و
أنه الجزء الأضعف في السلسلة .. أراد أن يخبرهم أنه يفعل عكس ما تربي عليه طوال
سنين .. أراد أن يخبرهم أنه يكره ذاته كل يوم، لأنه يشعر بأشياء لم يختارها، و لا
يعرف مصدرها، أراد أن يخبرهم كم يشعر بالخجل، كم يقضي كل ليلة في ألم .. يتمنى أن
يستيقظ كل يوم و أن تختفي كل ذلك من عقله ... يعلم أنهم سيكرهونه كثيراً .. و لكن
ليس له يد، لقد حاول كثيراً، قَسى على نفسه كثيرا و لكن لا مفر ..
نظر الى أعلى، أنهمرت دموعه في توسل .. ليست
أول مرة، فكل ليلة هي تلك اليلة .. نفس العواطف تعصف بعقله و بأيمانه عصفاً، ينسى
كل هذا أحياناً قليلة عندما يتلامس جسدهما، يغرق في أحساس بالأمان المؤقت، يعلم
أنه عاجلاً أم آجلاً سيعود لواقعه، و لن تشفع حينها القُبلات المُشتهية .. يرتمي
في حضنه أحياناً يحتمي به، كالطفل المرتعب .. و لكنه يعود في النهاية الى شياطين
ذاته.
ثبت عينيه على نافذته المفتوحة، و صوت الهواء
الغاضب، أتخذ خطواته الى هناك .. نظر الى الأفق، البحر الهائج .. يناديه في حنان
لا يتبدى للناظرين من أول وهلة، كم يشبه بعضهم بعضاً .. لطالما شعر بهذا الأرتباط
بينهما، طبيعة واحدة، يؤمن أن كلاهما يشعر بالآخر
بدا الطريق أمامه، لا مفر من النهاية
المحتومة، كُتب عليه يوم ولد أن يقف في نفس المكان مئات المرات .. و هذه المرة
بالذات، يمسح دموعه في تأثر .. لقد أستُنزف .. لم يعد قادراً على تحمل المزيد،
الصراع أقوى منه، لا يستطيع أن يجرح أحداً، فوجوده في حد ذاته كفيل بأن ينشر
التعاسة في هذه الأسرة المثالية .. شرخ واحد في سعادتهم يدمر الحياة بأكملها
يقف خائر القوى، مستسلماً للأصوات الهامسة في
أذنيه .. و للجاذبية ..
صوت أرتطام واضح، صرخات بعيدة .. تتباعد ..
لا يشعر بالألم .. يبتسم مرة أخيرة ..
Dedicated to
Jamey Rodemeyer … I know you’re in a better place, Jamey.
No comments:
Post a Comment